
بقلم: الدكتور يوسف حرمة ببانة – رئيس حزب سياسي موريتاني
تشهد الساحة السياسية الموريتانية هذه الأيام حراكاً متنامياً ومداولات عميقة داخل أروقة القرار، تواكبها قراءات متعددة في الشارع والنخبة السياسية، حول مآلات المرحلة المقبلة واحتمالات ما بعد انتهاء الولاية الدستورية للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.
هذا النقاش، وإن كان مبكراً من حيث التوقيت الرسمي، إلا أنه يعكس حيوية المشهد الوطني وحرص مختلف الفاعلين على استشراف مستقبل السلطة في بلدٍ يخطو بثقة نحو ترسيخ مؤسسات الدولة الحديثة وتثبيت التناوب السلمي على الحكم كقيمة ديمقراطية راسخة.
⸻
أولاً: معادلة التوازن داخل النظام
لقد استطاع الرئيس الغزواني، منذ توليه الحكم عام 2019، أن يُحدث توازناً حساساً بين مراكز القوى داخل النظام، جامعاً بين هدوء القيادة وبراغماتية الأداء.
ومع اقتراب نهاية ولايته الثانية المحتملة، بدأت تطرح بجدية مسألة الخلافة، أو بالأحرى: من سيواصل النهج؟
الخيارات المحتملة داخل المنظومة الحالية – وفق المؤشرات السياسية والإدارية – تتجه نحو أربعة أسماء بارزة:
1. الوزير الأول الحالي، الذي يمثل واجهة مدنية تنفيذية حافظت على توازن الأداء الحكومي رغم الظروف الاقتصادية المعقدة.
2. وزير الدفاع حننه ولد سيدي، المعروف بصلابته واحترامه داخل المؤسسة العسكرية وعلاقاته المتقدمة مع الشركاء الأمنيين الدوليين.
3. وزير الداخلية محمد أحمد ولد محمد الأمين، الذي يُعد من الشخصيات الأكثر قدرة على إدارة الملفات الأمنية والسياسية الحساسة في الداخل.
4. الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية مولاي ولد محمد لغظف، بخبرته الواسعة في تسيير الدولة وقدرته على إدارة التوازنات الدقيقة داخل النظام وخارجه.
⸻
ثانياً: خيار تعديل الدستور
إلى جانب هذه الأسماء، تلوح في الأفق احتمالية تعديل الدستور بما يسمح للرئيس الغزواني بالترشح من جديد.
ورغم أن هذا الخيار لم يُعلن عنه رسمياً، إلا أن بعض الدوائر ترى فيه وسيلة لضمان الاستقرار واستكمال المشاريع الكبرى التي أُطلقت خلال السنوات الماضية، خصوصاً في ظل التحديات الأمنية والاقتصادية الإقليمية.
لكن هذا السيناريو – إن اتجه إليه النظام – سيفتح نقاشاً دستورياً وأخلاقياً كبيراً حول مدى انسجامه مع مبدأ التناوب الديمقراطي واحترام النصوص الدستورية التي رسختها التجربة الموريتانية خلال العقدين الأخيرين.
وفي كل الأحوال، يبقى التوفيق بين مطلب الاستمرارية ومبدأ التداول هو التحدي الأكبر أمام صانعي القرار.
⸻
ثالثاً: المعارضة بين الانقسام وإمكانات التجديد
من جهة أخرى، تعيش المعارضة الموريتانية حالة من الانقسام الواضح، إذ فقدت بعض أحزابها التقليدية زخمها الجماهيري، بينما تسعى قوى جديدة إلى شق طريقها وسط هذا التشتت، لكنها ما زالت عاجزة عن صياغة مشروع وطني موحد يواجه استحقاق 2029 ببرنامج جامع.
ومع ذلك، يبرز في المشهد المعارض النائب والرئيس بيرام ولد الداه ولد عبيد، الذي يقود كتلة مؤثرة داخل البرلمان وخارجه، مستنداً إلى قاعدة اجتماعية واسعة وخطاب سياسي جريء.
فبيرام يُعد اليوم من أبرز الوجوه المعارضة، ويمتلك رصيداً نضالياً لا يُستهان به، غير أن نجاحه المستقبلي سيظل رهيناً بقدرته على توسيع تحالفاته، وتحويل طاقته الجماهيرية إلى مشروع سياسي متكامل يوازن بين البعد الحقوقي والرؤية الوطنية الجامعة.
⸻
رابعاً: المؤسسة العسكرية والتوازنات الإقليمية
لا يمكن قراءة المشهد السياسي دون التوقف عند دور المؤسسة العسكرية التي ما تزال الضامن الأول لاستقرار الدولة ووحدتها.
غير أن التحولات الأخيرة أظهرت ميلاً متزايداً لدى المؤسسة نحو تسليم القيادة عبر القنوات المدنية المنتخبة، في خطوة تعكس نضج التجربة الوطنية وتطور وعيها المؤسسي.
كما أن موريتانيا نجحت خلال السنوات الماضية في الحفاظ على توازن دبلوماسي دقيق مع محيطها الإقليمي والدولي، وهو توازن ينبغي أن يُصان في أي مرحلة انتقالية مقبلة.
⸻
خامساً: الموقف الشعبي والنخبوي
الشارع الموريتاني، رغم هدوئه النسبي، يتابع باهتمام مجريات النقاش حول الاستحقاق الرئاسي المقبل، في ظل تزايد التطلع إلى تجديد الطبقة السياسية وضخ دماء جديدة في الحياة العامة.
أما النخبة السياسية والفكرية، فهي مدعوة اليوم إلى تجاوز الحسابات الضيقة، وإعلاء مصلحة الوطن على ما سواها، من خلال صياغة خطاب وطني جامع يربط بين الواقعية السياسية والرؤية الإصلاحية.
⸻
سادساً: الخلاصة
بين خيار الاستمرارية عبر تعديل الدستور، وخيار الخلافة داخل نفس المنظومة السياسية، وبين معارضة منقسمة تبحث عن فاعلية وتوازن، تقف موريتانيا اليوم أمام لحظة مفصلية في تاريخها الحديث.
الرهان الحقيقي ليس فقط على من سيقود المرحلة المقبلة، بل على كيفية إدارة الانتقال السياسي بروح من المسؤولية الوطنية والحكمة.
إن الاستقرار ليس غاية في ذاته، بل هو شرط أساسي لبناء دولة قوية وعادلة.
ولذلك، فإن مستقبل موريتانيا سيتوقف على قدرة النظام والمعارضة والنخب على تغليب منطق الدولة على منطق الأفراد، ومصلحة الأمة على حسابات الطموح الشخصي.
⸻