مساحة إعلانية

     

  

    

  

الفيس بوك

موريتانيا مسار سياسي بين الفوضى ومحاولات الإصلاح/بقلم: الدكتور يوسف حرمه بابانا

لم يكن المشهد السياسي في موريتانيا يومًا مستقيم المسار، فمنذ فجر الاستقلال تعاقبت على حكم البلاد أنظمة متباينة الطابع، تداخلت فيها الطموحات الشخصية مع رهانات البقاء في السلطة، فكانت النتيجة سلسلة من الانقلابات والتحولات غير المكتملة التي أفرزت حالة دائمة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. وقد انعكس ذلك على حياة المواطنين الذين ظلوا يعيشون بين وعود التنمية ومآسي الفساد.

عرفت البلاد خلال فترات متعددة مظاهر واسعة من سوء التسيير والنهب الممنهج، خصوصًا في ظل فترات الحكم التي غلب عليها الطابع العسكري وما صاحبها من تغليب منطق الولاءات على منطق المؤسسات. فرغم إعفاء موريتانيا من جزء معتبر من ديونها في مرحلة ما، فإن ذلك لم يتحول إلى مكاسب ملموسة على أرض الواقع، بل بقيت الموارد العامة رهينة منظومة إدارية مثقلة بالاختلالات، تؤكدها تقارير محكمة الحسابات التي تكشف كل عام عن تجاوزات مالية وهيكلية كبيرة في قطاعات مختلفة. ورغم ما تثيره هذه التقارير من جدل وما تخلّفه أحيانًا من إقالات محدودة، فإنها تظل شاهدًا على استمرار ثقافة الإفلات من العقاب وضعف أدوات الرقابة والمساءلة.

وتتغذى هذه المعضلات من طبيعة الصراع السياسي ذاته، حيث ظل هاجس الخلافة والتحكم في مفاصل السلطة أقوى من التنافس على البرامج والرؤى. فمنذ الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع عام 2005، لم تعرف موريتانيا استقرارًا مؤسسياً كاملاً، إذ استمرت التوترات داخل مراكز القرار، وأصبح الانتقال من رئيس إلى آخر محاطًا بالريبة والتجاذب أكثر من كونه ممارسة طبيعية في حياة سياسية ناضجة.

أما الحوارات الوطنية التي تكررت على مدى العقود الماضية فقد كانت في أغلبها محاولات لتبريد الأزمات أكثر من كونها خطوات فعلية نحو الإصلاح. فغياب الضمانات لتنفيذ المخرجات جعلها تفقد بريقها وجدواها، في وقت تزايدت فيه الهوة بين الطبقة السياسية والمجتمع، وتراجعت ثقة المواطن في جدوى الخطاب الرسمي.

في المشهد الراهن، تبرز حالة من الاحتقان السياسي المتصاعد بين السلطة والمعارضة، حيث تعود إلى الواجهة مجددًا نقاشات حول جدوى الإصلاح ومحاربة الفساد وتعزيز العدالة الاجتماعية. وتتعدد الأصوات المطالِبة بمراجعة شاملة لنهج التسيير السياسي والاقتصادي، في ظل شعور عام ببطء وتيرة التغيير. ويعكس هذا المناخ توترًا مكتومًا في العلاقة بين النخب السياسية ومؤسسات الدولة، وتراجع الثقة الشعبية في قدرة النظام على إحداث قطيعة حقيقية مع ممارسات الماضي، رغم تمسك الرئيس بخطاب الإصلاح وضبط الإيقاع العام للمشهد الوطني.

وفي هذا السياق، جاءت زيارة الرئيس غزواني إلى مدينة النعمة، وإقامته هناك لأكثر من أسبوع في سابقة سياسية لافتة، لتثير الكثير من التأويلات. فالبعض قرأ فيها رسالة طمأنة إلى الداخل، خاصة في ظل التدهور الأمني المتصاعد في دول الجوار، ورغبة في إظهار حضور الدولة في مناطقها الطرفية. بينما رأى آخرون أن التوقيت، قبل أسابيع من عيد الاستقلال الوطني، يحمل رمزية تتصل بتجديد العهد مع المواطنين في لحظة اقتصادية دقيقة تتداول فيها الأوساط الرسمية حديثًا عن رفع الدعم عن الوقود. وقد تكون الزيارة أيضًا محاولة لإعادة بناء الثقة بين المركز والأطراف، وإبراز صورة رئيس قريب من المواطنين في مواجهة تحديات متراكمة.

وفي خطابه الأخير من النعمة، أكد فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أنه “رجل صبور”، لكنه شدّد بوضوح على أن الاجتماعات القبلية لم تعد مقبولة، معتبرًا إياها أحد مظاهر الدولة العميقة التي تعيق الإصلاح وتضعف الانتماء الوطني الجامع. هذا الموقف، الذي يمثل قطيعة رمزية مع أحد أقدم أنماط التأثير الاجتماعي في الحياة السياسية الموريتانية، يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من إعادة ترتيب البيت الداخلي. ويرى مراقبون أن عودة الرئيس إلى نواكشوط بعد هذه الجولة الميدانية ستكون بداية لخطوة عملية كبرى، قد تتجلى في تعديل وزاري مرتقب يستند إلى تقييم مباشر للواقع الميداني ولانطباعات المواطنين، في محاولة لإعادة هيكلة الجهاز التنفيذي بما يتناسب مع طموح الإصلاح المعلن.

ورغم ما تحمله هذه التحركات من رسائل سياسية، فإن جوهر الأزمة الموريتانية لا يزال في مكانه: دولة تبحث عن التوازن بين الشرعية والفعالية، ومجتمع يتأرجح بين الأمل والإحباط. ومع ذلك، فإن فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يظل – برصيد خبرته وهدوئه السياسي – رجل المرحلة بامتياز، القادر على قيادة التحول المطلوب إذا ما اتخذ خطوات جريئة تُعيد الثقة وتُحدث القطيعة مع ممارسات الماضي. فبوجود ولاء شعبي واسع وإجماع وطني متاح، يمكنه أن يُحدث الفرق، إن قرر أن “يمسح الطاولة” ويبدأ من جديد. ولا يزال الوقت يسمح بذلك.

د. يوسف حرمة بابانا – سياسي موريتاني

أحد, 09/11/2025 - 09:20