
ليس كل من ربّى تكلّم، ولا كل من علّم أشار، فثمة رجال يجعلهم الله مفاتيح للمعاني، يمرّون في حياة الناس خفافًا، لكنهم يتركون في الأرواح ما لا تتركه الخطب ولا المواعظ. من هؤلاء كان الشيخ محمد المختار بن محم بن دهاه، رجلٌ تعلّمتُ من صحبته أن التربية الحقة لا تُلقَّن، بل تُعاش.
كان حضوره سكينة، وكأن الطمأنينة تتقدّم معه حيث حلّ. لم يكن يشرح الرضا، بل يُقيم فيه، فإذا وسّع الله عليه لم تغيّره السعة، وإذا ضاق الأمر لم تزعزعه الضيقة. المال عنده ظلّ زائل، والعطاء حالٌ ثابت، يعطي قبل أن يُسأل، ويمنح دون أن يلتفت إلى ما خرج من يده، كأن يده لا ترى إلا ما تبقيه عند الله.
وكان إذا اختار صحبته، اختارها على ميزان البصيرة لا على ميزان القرب، فما كان يأنس بالكثرة، ولا يطمئن إلى الصحبة إلا إذا رأى فيها أثر الصدق. أدركناه ولم يتمّ الأربعين، وأكثر من حوله من جيل شيوخه، كأنما كان يسابق الزمن ليختصر المسافة إلى المعنى. وكان يردّد في مجالسه ما يوقظ القلوب: أن المرء مرآة جليسه، وأن الأرواح تتشكّل قبل الأجساد.
ومن مشاهد كرمه التي لا تُنسى أن زاره يومًا الدكتور الشيخ المختار ولد حرمة ولد بابانا، رحمه الله تعالى، بعد طول غياب، فقال له الشيخ محمد المختار على بساطته: طال عهدك بي. فأجابه: ليست لي سيارة رباعية الدفع. فما كان من الشيخ إلا أن نادى إحدى المرافقات، وقال لها: أعطيني ذوك المفاتيح اللي فم. فناولته مفاتيح سيارة لم تكن قد خرجت بعد من الميناء، قادمة مباشرة من المصنع، من نوعٍ خاص لم يكن له مثيل في البلاد يومئذ. فأمر أن تُستكمل جمركتها، وأن تُسلَّم أوراقها كاملة للشيخ ولد حرمة، دون تردّد ولا التفات، كأن الأمر كان مقررًا في سابق علمه. وما كانت تلك إلا لمحة من بحر، وقطرة من حال، عرفناه في صبانا كما عرفناه في شبابنا.
لم يكن عطاؤه طارئًا، ولا مرتبطًا بمقام أو مناسبة، بل كان امتدادًا طبيعيًا لحالٍ مستقرة، يرى فيها أن ما في اليد أمانة، وأن أولى الناس به من دلّ عليه الله في اللحظة نفسها. كان يعطي ليُريح قلبه، لا ليُدهش غيره، ويجود ليبقى خفيفًا، لا ليُثقل نفسه بالحساب.
وكان صمته أبلغ من خطابه، فإذا تكلّم أوجز وأصاب، وإذا سكت علّم وأرشد. يجلس في المجلس فلا يتقدّمه، لكن القلوب تتقدّم إليه، وكأن الهيبة لا تحتاج إلى إعلان. ومن عرفه علم أن التربية الصادقة لا تُقاس بما يُقال، بل بما يرسخ في النفس دون جلبة.
إن الحديث عن الشيخ محمد المختار بن محم بن دهاه ليس استدعاءً لسيرة رجل فحسب، بل تذكيرٌ بأن بعض الرجال يربّون الأرواح كما تُربّى الأشجار: بظلّ دائم، وماءٍ خفي، وصبرٍ طويل. أولئك الذين إذا غابوا لم يُحدث غيابهم ضجيجًا، لكنهم يتركون في القلب فراغًا لا يملؤه إلا الاقتداء.
اللهم اجعلنا من خير خلف لخير سلف، وارزقنا الاقتداء بالحق والصلاح، كما أرشدنا من سبقونا، واجعلنا ممن يترك أثرًا صامتًا في نفوس من حوله.


.gif)
.jpg)


.jpg)