
كتب الجنرال المتقاعد لبات ولد المعيوف القائد الأسبق للأركان في رئاسة الجمهورية: "خلافًا للرواية التي جرى الترويج لها طويلًا، لم يكن انقلاب العاشر من يوليو 1978 انقلابًا هدفه إيقاف حربٍ خاسرة، ولا استجابةً لوضعٍ عسكري منهار، ولا محاولة إنقاذ لدولة كانت على وشك السقوط. فموريتانيا، في ذلك التاريخ، لم تكن دولةً مهزومة، ولم تكن راكعة، ولم تكن عاجزة عن مواصلة القتال. إن هذا الخطاب ليس سوى تبرير لاحق، صيغ لإضفاء الشرعية على فعلٍ سياسي استهدف الدولة في جوهرها، لا الحرب في ذاتها.
في عام 1978، لم تكن موريتانيا في وضعٍ أسوأ من ذلك الذي بدأت به الحرب، بل كانت على العكس في وضعٍ أفضل بكثير. فقد دخلت الحرب بجيش محدود العدد، ضعيف التسليح، قليل الخبرة، وبإمكانات لوجستية متواضعة للغاية. ومع ذلك، استطاعت الدولة، رغم هذه القيود القاسية، أن تتكيّف، وأن تبني خبرة ميدانية، وأن تطوّر قدرتها على إدارة الصراع، وأن تتجاوز جزءًا كبيرًا من اختلالات البدايات.
لقد راكمت موريتانيا، عبر الزمن، معرفة دقيقة بالميدان، وفهمًا عميقًا لطبيعة المواجهة، وقدرة متنامية على التحكم في مسار العمليات. وبحلول العاشر من يوليو 1978، كانت البلاد قد بلغت مرحلة من التماسك الاستراتيجي جعلتها قادرة على مواصلة الحرب من موقع أفضل بكثير مما كانت عليه في سنواتها الأولى. ولم تكن الهيمنة الميدانية التي بدأت تتشكل وهمًا أو دعاية، بل واقعًا في طور الترسخ.
وعليه، فإن الادعاء بأن الانقلاب جاء لوقف حربٍ مستحيلة الاستمرار، إنما هو قلب للحقيقة وتزوير للوقائع. فالانقلاب لم يكن موجّهًا ضد حربٍ مُنهِكة، بل ضد موريتانيا نفسها، ضد مسارها، وضد مشروعها الناشئ، وضد دولة كانت تضع لبنات الاستقرار والاعتماد على الذات وبناء المستقبل.
فموريتانيا في أواخر السبعينيات لم تكن دولة بلا أفق. لقد كانت تمتلك أسس دولة قابلة للحياة، ومقومات كيان وطني واعد. وكانت تزخر بثروات طبيعية هائلة، لم يُكشف عن كثير منها رسميًا إلا في زمن لاحق، بينما كانت معروفة ومُقدَّرة لدى بعض القوى منذ ذلك الحين. ولو تُرك لهذا المسار أن يكتمل، لكانت تلك الثروات كفيلة بأن تضع موريتانيا في موقع اقتصادي واستراتيجي مغاير تمامًا لوضعها الحالي.
كانت موريتانيا مرشحة لأن تصبح دولة محترمة، ذات وزن إقليمي حقيقي، فاعلًا مؤثرًا في غرب إفريقيا، وفي إفريقيا عمومًا، وفي الفضاء المغاربي. دولة قادرة على التأثير، وعلى حماية مصالحها، وعلى فرض حضورها في محيط بالغ الحساسية. هذا الأفق لم يكن مجرد طموح، بل احتمالًا واقعيًا كان يتشكل. غير أن هذا الاحتمال بالذات كان لا بد من إجهاضه.
ومن هنا، فإن الدافع الحقيقي لانقلاب 1978 لم يكن الخوف على الدولة، بل الخوف من صعودها. لم يكن إنقاذًا لموريتانيا، بل كبحًا لها، وتعطيلًا لمسارها، وقطعًا لطريق كان يقودها نحو قدرٍ مختلف. وقد استُخدم في ذلك بعض أبناء هذا الوطن، عن وعي أو عن غير وعي، ليكونوا أدوات في لحظة مفصلية، لا تزال آثارها ممتدة حتى يومنا هذا.
ومنذ ذلك الانقلاب، وُضعت موريتانيا في حالة هشاشة دائمة: هشاشة سياسية، وهشاشة مؤسساتية، وهشاشة اقتصادية واجتماعية. دولة مهددة على الدوام بالانقسام، عاجزة عن السيطرة الكاملة على ثرواتها، التي لا يزال جزء كبير منها يفلت من قبضتها. دولة ذات مستقبل ملتبس، محدود الآفاق، رغم ما تملكه من إمكانات استثنائية.
لقد كان انقلاب 1978 الأداة التي جرى بها تحريف المشروع الوطني الموريتاني، وإبعاد الدولة عن رؤيتها التأسيسية، وإفراغ طموحاتها من مضمونها. ومنذ ذلك الحين، دخلت البلاد في دوامة من عدم الاستقرار: عدم استقرار في الحكم، وعدم استقرار في المؤسسات، وعدم استقرار في العلاقة بين الدولة ومجتمعها.
وهذه الحالة لم تتوقف، بل أعادت إنتاج نفسها بأشكال مختلفة. مرة في زيٍّ عسكري، ومرة في لباس مدني. مرة عبر الاستعراض، ومرة عبر واجهات قانونية شكلية. ويُروَّج أحيانًا لوجود “سلطة عسكرية”، بينما الواقع في كثير من الأحيان هو سلطة مدنية متخفية، تقف خلفها شبكات من المصالح، تحرّك الدولة وتوجه قراراتها بعيدًا عن المصلحة الوطنية العليا.
إن كثيرًا من الأزمات التي تعيشها موريتانيا اليوم ليست سوى امتداد مباشر لذلك الحدث المؤسس في العاشر من يوليو 1978. فهو لم يكن لحظة عابرة في التاريخ، بل بداية مسار منحرف لا يزال يتجدد، ويتلوّن، ويتكيّف مع الزمن، ليُبقي البلاد أسيرة حلقة مفرغة.
إن فهم انقلاب 1978 ليس استدعاءً للماضي من أجل الماضي، بل قراءة لجذور الحاضر. إنه محاولة لفهم السبب الذي جعل موريتانيا ليست بعدُ ما كان يمكن – وما كان ينبغي ، أن تكونه. وهو، في جوهره، طرح لسؤال لم يُحسم بعد:
متى، وكيف، ستتمكن موريتانيا من استعادة مشروعها الأول، والعودة إلى الطريق الذي أُبعدت عنه قسرًا؟


.gif)
.jpg)


.jpg)