مساحة إعلانية

     

  

    

  

الفيس بوك

رحلتي إلى وادان وصفحات العلم والتمر والجمال../ عبد المالك ان ولد حني: كاتب

يقال: إن العلم بين أهل الفضل والعقل رَحِم متصل، كما يفيد الشافعي، وفي زيارتي لوادان بمناسبة مهرجان مدائن التراث في دورته 14، توصلت إلى أن صناعة الفقه والفتوى نسب متصل بين أعلام وعلماء المدن التاريخية القديمة، نظرا لعلاقات التبادل والاستئناس والاسترواح التي كانت تطبع القرابة العلمية بين المنتمين لهذه المدن.
يفوح من هذه المدينة عبق التاريخ وينتشر شذى العلم وتشرق شموس الصلاح والولاية والتقى، وتقف معالم المدينة شاهدة على عظمة من سكنوا هذه الأرض وعمروها بالزراعة والمعرفة والعمارة، وتذكرني المدينة بحواضرنا الإسلامية الشامخة في الغرب الإسلامي التي تحتضن هويتنا، وهي مصدر عزنا وفخرنا، وقد ورثت ولاتة تنبكتو عند هجرة الكثير من علماء الأخيرة إلى الأولى في القرن 10 الهجري، وهو ما عزز علاقة ولاتة بوادان، حيث نجد أن أسرة الأقيتيين المعروفة بالعلم والصلاح والفتيا، تنتمي إلى مدينتي ولاتة ووادان.
وسعدت أيما سعادة بزيارة قبور العلماء الذين قرأتُ عنهم في نصوص التراث، وعاينتُ أضرحتهم، ودعوتُ لهم وتوسلت بعلمهم وصلاح أعمالهم وبركاتهم، وجُلْتُ في مناكب الأرض التي عمروها تدريسا وتأليفا وعلما وفتاوي، وكانت مدينة وادان مركز علوم كثيرة وثقافة عربية إسلامية راسخة، وعرفت المدينة أول مؤلف فقهي في البلاد كلها لمحمد بن أبي بكر صاحب موهوب الجليل على مختصر خليل، قال: محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي صاحب فتح الشكور في أعيان علماء التكرور: "كان حيا 933 للهجرة".
في: وادان، لم تصرفني مهمة المكونة العلمية وحِجاج الأفكار ومناقشة قضايا التراث مع المختصين، عن اكتشاف ما تخبئه هذه المدينة الجميلة من يَبابِِ في ركنها الأول الذي يكاد يندثر، هنا زخرت المدينة بمقومات الحضارة فعلا، وفي تتبعي لما تعاقب عليها من الأزمنة، وفي توثيقي لزيارة قبور الشرفاء والأولياء والفقهاء والصالحين والقادة الغيورين أخذت تلك المشاهد بِلُبِّى، هنا جذبتني المدينة وسحرتني أزقتها وكرم أهلها وسجلاتها المعرفية  وسفوح جبالها وأودية نخيلها، فوقفتُ على سورها وبئرها الممسكة بحيزها الباقي من الصورة العصية على متاهات التحليل، لأستنطق  هذا الماضي التليد، والذي لا زلنا نتلافى بعزيمة فقط بقيته، وشاهدتُ صحون المسجد خالدة، وخشوع جدرانه، وصمود مئذنته، وتهاوي أساطينه التي ظلت تشع بنورها طيلة قرون.
حافظت المدينة في مختلف عصورها على شخصيتها العلمية وإرثها الثقافي وجمال عمارتها وروعة بساتينها.
في وادان زرتُ بيوتات الآل من شرفاء المدينة: (عائلة صديقي ورفيق دربي الدكتور: محمد المهدي ولد محمد البشير) -أخي الذي لم تلده أمي- وهم يعرفون عني أكثر مما أعرف عن نفسي لكثرة حديث محمد المهدي عنِّي، وتكرار اسمي عليهم في محادثاته لهم، فأنا ومحمد المهدي والدكتور محمد محمود ولد الصديق مزجت أرواحنا الغربة في الجزائر، وأَلّفَت الزمالة بيننا في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، وفَعَلَ التخصص هو الآخر فعله في التعارف والتشاكل بين ثلاثتنا، وفي بيت الدكتور محمد المهدي بوادان فُتِحت لي القلوب، وأُدْخِلتُ المكتبة التي يراد لي أن أرى وأستمتع بتصفح مخطوط: موهوب الجليل على مختصر خليل، ومخطوط لوامع الدرر في هتك أستار المختصر، إجلالا لي ومبالغة في التقدير، كما زرتُ خالَه الشريف التيشيتي: بوي أحمدي، وقلتُ لزوجِه المصونة: رغم أخوتي لمحمد المهدي فأنا أحق بكما لأن تيشيت أُولى منازلِنا، وبها كان: الفقيه النحوي الأصولي: سيدي محمد ولد موسى ولد أيجل الزيدي، والعلامة: الحاج الحسن ولد آغبد الزيدي الذي انتهت إليه رئاسة الفقه -ليس في تيشيت وحدها وإنما في بلاد شنقيط كلها- كما يثبت الدكتور جمال ولد الحسن في تحقيقه لضالة الأديب لولد انبوجه، والولي الصالح العارف بالله الشيخ: سيدي محمد ولد الحاج عبد الله بوردة، كما زرتُ النائب الشهم ورجل المروءة الوفي: سيدي بابه ولد اللهاه في بيته العامر، وزرتُ: المهندس مولاي ابراهيم ولد مولاي ابراهيم ابن عم محمد المهدي، والذي درس معنا في الجزائر وكان مقيما بحي الحراش، وعميد عائلتهم السيد الشريف مولاي الزين والتقيتُ ابنَه، واحتفى بي كثيرا، وزرتُ عمدة وادان ولم أجده في بيته، واستقبلني أهله ببشر وبشاشة.
في وادان أكلتُ لأول مرة: الكتله، واستمتعتُ بنكهة لكسور، ولذاذة وجبة ابلقمان، وشربة تاجه، ولا يكاد أهل وادان يقدمون وجبة إلا وتخللتها فاكهة التمر، لولعهم بالتمور، عندها استحضرت ما ذهب إليه الرحالة الفقيه الصالح: ولد اطوير الجنه من علة اشتقاق وادان في التسمية وأنها تعود إلى (واديان أحدهما من العلم والآخر من التمر).
إن المباني المتهالكة في المدينة القديمة تطبعها الفرادة والتميز، ويزينها ما يحف بها من باسقات النخيل، وهالني صمود سور المدينة ومشاهد البئر، وشارع الأربعين عالِما، وغير ذلك من مشاهد العظمة ونتف الحضارة، وحُدِّثْتُ أن سر قوة جدران المدينة القديمة يكمن في بنائها بالحجارة والطين الذي يضيفون له مواد أخرى من عظام الحيوانات النخرة، والتبن -الحشيش- ويخمرون ذلك لغاية شهر تقريبا حتى تفوح منه رائحة عفنة.
نلتقي مع وادان ونختلف في الكثير من تسميات غرف المنزل، كالسّكْفَه والدّرْبْ، ولدينا كَتُّو، بينما يقول أهل وادان: التجفده، واقرنقفه، وأكرن، والتيبيريت التي نطلق نحن عليها: الخَبْطه.
يميز مسجد وادان المندثر بتعبير الدكتور: أحمد مولود ولد أيده، أن صحنه (ساحته)، التي يُقرَأ فيها الحديث وتؤدى فيها المكتوبات وقت الحر، قدام المسجد، بينما في ولاتة وأخواتها فإن الصحن يكون خلف المساجد، ويَحْكي أهل وادان كما رأيتُ بأم عيني أن على أعلى مئذنة المسجد العتيق المندثر خمس بيضات نعامة، تعبر عن قواعد الإسلام الخمس، وهو ما لا تعرفه مآذن أخوات وادان، وكانت هذه المئذنة تبلغ 16 مترا، كما في تيشيت، بخلاف ولاتة وشنقيط فلا تتجاوزان 10 أمتار، وأتذكر أن مئذنة مسجد تنبكتو ليست بذلك الطول أيضا، والسور الذي يحمي المدينة من الأعداء لفترة طويلة ويصد عنها هجمات الصائلين، لا زال يقاوم صامدا بشموخ، ولم تعد للمدينة أبوابها الأربعة الذي يؤدى اثنان منهما إلى الوادي والنخيل ويسلكهما الناس بينما تقفل القوافل والحيوانات من البابَينِ الآخريْنِ.
كانت بين ولاتة ووادان صلات قرابة ربطت الفقهاء بعضهم ببعض، فسيدي أحمد الشواف الواداني الأتيدي الحاجي ت 1140 هجرية، والذي روى حديث المصافحة متصل الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين الرسول عشرون شيخا فيهم صحابيان، وممن أخذه عنه: سيد أحمد ولد سيدي محمد ولد موسى ولد أيجل الزيدي الولاتي ت 1136 هجرية، وللحاج الحسن ولد آغبد الزيدي سندين متصلين بسيد أحمد أيده القاسم، أحدهما عن الفزازي والآخر عن أحمد الولي، ثم إن فتاوي سيدي حبيب الله ولد المختار الكنتي الواداني مبثوثة بكثرة في مجموع انبوي المحجوبي الولاتي، وقد أخذ أيضا العالِم الولي الشهير لمرابط ولد سيدي محمود الحاجي عن العلامة الفقيه الطالب جدو ولد الطالب نختيرو القلاوي، ولازمَ الأولُ الأخيرَ.
وأغلب المجامع الإفتائية الموريتانية  يشكل فقهاء ولاتة ووادان مرجعية كاملة لها، وكان الفقيه سيد أحمد الفزازي الواداني أول من أدخل شرح الحطاب لمختصر خليل إلى وادان، أخذه بالسند المسلسل إلى الحطاب عن الحاج أحمد المسك والد الشيخ أحمد بابا التنبكتي  ت 1086 هجرية، وأجوبة ونوازل السالك بن الإمام -فقيه وادان وإمام مسجده وحامل لواء الفتوى فيه -معروفة.
إن جمال طبيعة وادان وغنى موروثها ضارب في جذور التاريخ، فقد جمعت المدينة بين العلم والتمر، وتزينت بفضائها الصحراوي الجاف، وهوائها الممدود الصحيح والعتيد، وذاع صيت المدينة فتدفق إليها العلماء والأدباء والتجار، وكان فقهاؤها وصلحاؤها أول من اعتنوا بأدب الرحلة في هذه البلاد كما نجده في رحلة المنى والمنة للعلامة الرحالة العبد الصالح ولد اطوير الجنة.
وتُحسِن وزارة الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان في تطوير نِسَخ هذه التظاهرات (مدائن التراث) حين تضيف إليها مشكورة المنشآت التنموية والمكونات العلمية، مما يحرك التنمية وينعش طاقة الاقتصاد، ويخدم التراث ويحقق المصلحة المتكاملة، ثم ما يطبعه القطاع من كتب ويصدره على هامش الدورات، وأهمية تنظيم المسابقات والتنافس والتشجيع بين شباب ونساء المدن.
ولأن لكل مهمة أهلها وساحتها كما للاختصاص حرمته، فإننا نرى هذه المدن في هذه المواسم قِبلة يقصدها الباحثون وقادة الرأي من حملة العلوم والمعارف والفقهاء والمؤرخين والمهتمين بالتراث.
وقد اضطلع بالخطة الدينية في وادان طبقات من كبار الفقهاء الذين آلت إليهم المرجعية الدينية في المدينة ومارسوا الفتوى وفق الشروط والضوابط الفقهية المتعارف عليها، فأنتجوا ثروة فقهية كبيرة، وما بَرِح تراث مدينة وادان رافعة للتنمية، ومصدرا للتنوع وبوتقة للوحدة الوطنية في موريتانيا.
وتبدو الآثار المعرفية المنتشرة في مكتبات المدينة شاهدة على عمقها التاريخي ومكانتها العلمية المرموقة، ثم إن المدينة بفضل إرثها وإشعاعها الحضاري وثروتها العلمية الطبيعية كانت قِبلة للسياح الذين يتقاطرون عليها في كل الفصول، وعلى ما بُذِل من جهود مقدرة في ترميم الحي القديم وصيانة تراث المدينة عموما، فإنها تظل بحاجة إلى المزيد لانتشال تراثها الناطق والحي والغَنِيِّ، ونفض غبار الإهمال والضياع عنه.
 وفي وادان أنشد ما قاله أمير الشعراء في دمشق:.
سلام من صَبا بَرَدا أرقُّ@ودمع لا يُكَفْكَفُ يا دمشقُ
دخلتُكِ والأصيل له ائتلاق@ووجهكِ ضاحك القَسمات طَلْق
وحولى فتية غُرُُّ صِباح@لهم في الفضل غايات وسبقُ.

 

ثلاثاء, 23/12/2025 - 10:45