
صادقت الحكومة وسيصادق البرلمان اليوم على مشروع قانون المالية لسنة 2026 باعتباره ـ حسب خطابها الرسمي ـ خطوة نوعية في مسار تحديث المالية العمومية، وأول ميزانية تعد وفق مقاربة “ميزانية البرامج”. غير أن القراءة المتأنية لوثيقة المشروع تكشف أن ما يقدم على أنه تحول هيكلي عميق لا يعدو، في جوهره، كونه تغييرا شكليا في التبويب، دون أن يصاحبه تغيير حقيقي في فلسفة توزيع الموارد أو في أثر الإنفاق على حياة المواطنين.
صحيح أن المشروع يتوقع ارتفاعا في الإيرادات (+10.11%) وتوسعا في حجم الاستثمار العمومي (+15.9%)، غير أن هذا النمو الكمي يخفي اختلالات بنيوية عميقة، تتعلق بتركيبة الموارد، وأولويات الإنفاق، وضعف العدالة الاجتماعية والمجالية، فضلا* عن هشاشة مؤشرات الأداء وغياب آليات فعالة للمساءلة.
ميزانية برامج بلا مؤشرات ولا مساءلة
تفاخر الحكومة بأن ميزانية 2026 تتكون من 108 برنامج، لكن هذه البرامج ـ في غالبيتها ـ تفتقر إلى مؤشرات أداء قابلة للقياس، ولا تتضمن أهدافا كمية واضحة أو آجالا زمنية محددة وهو ما يحول “ميزانية البرامج” إلى مجرد لافتة تقنية، بدل أن تكون أداة حقيقية لربط التمويل بالنتائج وتحسين جودة الإنفاق العمومي.
الأخطر من ذلك أن الوثيقة لا توضح معايير توزيع الاعتمادات بين البرامج ولا الأسس المعتمدة لاختيار المشاريع الكبرى، كما تغيب تماما دراسات الكلفة والعائد، خاصة في مشاريع البنية التحتية التي تبتلع الجزء الأكبر من الاستثمار العمومي.
اختلال فاضح في أولويات الإنفاق
يظهر المشروع ميلا واضحا نحو البنية التحتية المادية (الطرق، الطاقة، التجهيز)، مقابل تهميش نسبي للقطاعات الاجتماعية الأساسية فمخصصات التعليم والصحة والحماية الاجتماعية تبقى دون مستوى التحديات الحقيقية، ودون ما تفرضه الاستراتيجية الوطنية للتنمية.
في قطاع التعليم، تهيمن النفقات الإدارية والتسييرية على حساب الاستثمار الميداني في الفصول، والتجهيزات، والتكوين، في ظل غياب مؤشرات تقيس تحسن جودة التعليم أو نسب التمدرس. أما في قطاع الصحة، فيتركز الاستثمار على اقتناء بعض التجهيزات التقنية، دون معالجة النقص الحاد في البنية الصحية الأساسية والموارد البشرية، خصوصا في الداخل.
أما برامج الحماية الاجتماعية، وعلى رأسها برنامج “تكافل”، فإن مخصصاتها (1.38 مليار أوقية) لا تتناسب إطلاقا مع حجم الفقر والهشاشة، ولا تشكل شبكة أمان قادرة على امتصاص آثار الضرائب غير المباشرة وارتفاع تكاليف المعيشة.
عدالة اجتماعية ومجالية غائبة
يعاني المشروع من ضعف واضح في العدالة الترابية، (عدالة التوزيع)حيث تتركز المشاريع في مناطق محددة دون رؤية وطنية متكاملة لتقليص الفوارق الجهوية. كما لا توجد معايير موضوعية وشفافة لتوزيع الاستثمارات بين الولايات، وهو ما يكرس الإحساس بالتهميش ويغذي الفوارق الاجتماعية.
في المقابل، تحظى بعض القطاعات بمخصصات ضخمة ـ مثل الدفاع والتجهيز والنقل ـ دون نقاش عمومي كاف حول أولوياتها أو أثرها الاجتماعي المباشر.
إصلاحات ضريبية على حساب الفئات الهشة
يعتمد المشروع على فرض ضرائب جديدة وزيادة ضرائب غير مباشرة، مثل ضريبة المعاملات الإلكترونية ورفع الضريبة على العمليات المالية، وهي إجراءات قد تثقل كاهل المواطنين، خاصة الفئات الهشة، دون أن تقابلها سياسات فعالة لمحاربة التهرب الضريبي أو دمج القطاع غير الرسمي.
كما أن تقديرات الإيرادات تبدو متفائلة إلى حد المبالغة، خصوصا فيما يتعلق بإيرادات الصيد، ما يطرح تساؤلات جدية حول مصداقية الفرضيات التي بنيت عليها الميزانية، ويهدد بتوسيع العجز في حال عدم تحقق هذه التوقعات.
خلاصة: ميزانية تحتاج إلى مراجعة جريئة
إن مشروع قانون المالية لسنة 2026، رغم ما يحمله من عناوين إصلاحية، يظل ميزانية تركز على الحجم أكثر من الأثر، وعلى الشكل أكثر من المضمون وهو ما يفرض على البرلمان، تحمل مسؤولياته الدستورية كاملة، على النحو الآتي:
• مراجعة أولويات الإنفاق لصالح التعليم، الصحة، والحماية الاجتماعية
• فرض مؤشرات أداء واضحة وقابلة للقياس لكل برنامج
• تعزيز العدالة الجغرافية في توزيع الاستثمارات
• تحسين شفافية المشاريع الكبرى ونشر دراسات الجدوى
• إصلاح النظام الضريبي بما يحقق العدالة ويحمي الفئات الهشة
فميزانية الدولة ليست مجرد أرقام في جداول، بل هي عقد اجتماعي يعكس اختيارات سياسية وأي ميزانية لا تترجم إلى تحسن ملموس في حياة المواطن، تظل ميزانية ناقصة الشرعية، مهما بلغ حجمها أو كثرت عناوينها.


.gif)
.jpg)


.jpg)